خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 13 من جمادى الأولى 1446 هـ - الموافق 15 / 11 / 2024م
حَبْلُ اللهِ الْمَتِينُ
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، بَشَّرَ فِي الْقُرْآنِ بِالْجِنَانِ، وَأَنْذَرَ مِنَ النِّيرَانِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْمَبْعُوثُ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجَانِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ الْعَرْضِ عَلَى الْمَلِكِ الدَّيَّانِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وَاعْمَلُوا بِطَاعَتِهِ وَرِضَاهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد:28].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:
اعْلَمُوا أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ كِتَابُ اللهِ الْخَالِدُ، وَمُعْجِزَةُ الْإِسْلَامِ الْكُبْرَى، وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَالنُّورُ الْمُبِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، هُوَ الَّذِي لَمْ تَنْتَهِ الْجِنُّ إِذْ سَمِعَتْهُ أَنْ قَالُوا: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ [الجن:1- 2]، مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ؛ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلام وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة:16]. تَكَفَّلَ اللهُ بِحِفْظِهِ وَصِيَانَتِهِ، وَأَمَرَ بِتَدَبُّرِ آيَاتِهِ وَتَأَمُّلِ مَعَانِيهِ وَسَبْرِ حَقِيقَتِهِ؛ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]. وَقَدْ سَمَّاهُ بِأَسْمَاءٍ كَثِيرَةٍ، وَوَصَفَهُ بِصِفَاتٍ كَبِيرَةٍ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِعَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ اللهِ، وَلِجَلَالِ قَدْرِهِ وَمَكَانَتِهِ عَلَى مَا سِوَاهُ؛ فَقَدْ سَمَّاهُ نُورًا فَقَالَ: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً [النساء:174]، وَسَمَّاهُ هُدًى وَرَحْمَةً فَقَالَ: هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ [لقمان:3]، وَسَمَّاهُ فُرْقَانًا فَقَالَ: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ [الفرقان:1]، وَسَمَّاهُ شِفَاءً فَقَالَ: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ [الإسراء:82]، وَسَمَّاهُ مَوْعِظَةً فَقَالَ: قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ [يونس:57]، وَسَمَّاهُ مُبَارَكًا فَقَالَ: كتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ [ص:29]، وَسَمَّاهُ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ فَقَالَ: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ [الزمر:23]، وَسَمَّاهُ تَنْزِيلًا فَقَالَ: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:192]، وَسَمَّاهُ رُوحًا فَقَالَ: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52]، وَسِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُبَارَكَةِ الَّتِي زَادَتْ عَلَى خَمْسِينَ اسْمًا.
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ:
وَالْقُرْآنُ الْمُبِينُ كِتَابُ هِدَايَةٍ لِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ، فَتَحَ اللهُ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا، وَهَدَى بِهِ مِنَ الضَّلَالَةِ، وَعَلَّمَ بِهِ مِنَ الْجَهَالَةِ، وَكَثَّرَ بِهِ بَعْدَ الْقِلَّةِ، وَأَعَزَّ بِهِ بَعْدَ الذِّلَّةِ؛ الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [إبراهيم:1].
وَهُوَ: يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9] أَيْ: يُوصِلُ لِأَقْوَمِ الطُّرُقِ وَأَوْضَحِ السُّبُلِ وَأَكْمَلِ الْأَخْلَاقِ، وَإِلَى أَعْدَلِ الْعَقَائِدِ وَالْأَعْمَالِ وَطَاعَةِ الْخَلَّاقِ، فَمَنِ اهْتَدَى بِمَا يَدْعُو إِلَيْهِ الْقُرْآنُ؛ كَانَ أَكْمَلَ النَّاسِ وَأَقْوَمَهُمْ وَأَهْدَاهُمْ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ عَلَى مَدَى الزَّمَانِ؛ قَالَ سُبْحَانَهُ: إِنَّ هَذَا الْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ وَيُبَشّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا. وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الإسراء:9-10].
عِبَادَ اللهِ:
إِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللهِ -سُبْحَانَهُ- مَكْتُوبٌ فِي السُّطُورِ، وَمَحْفُوظٌ فِي الصُّدُورِ، وَمَقْرُوءٌ بِالْأَلْسُنِ، وَمَسْمُوعٌ بِالْآذَانِ، فَالِاشْتِغَالُ بِهِ تِلَاوَةً وَتَدَبُّرًا مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ، وَمِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ، فَفِي تِلَاوَةِ كُلِّ حَرْفٍ مِنْهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَيَنَالُ الْخَيْرِيَّةَ مَنْ قَرَأَهُ وَتَدَبَّرَهُ، وَمَنْ تَعَلَّمَهُ وَعَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ؛ فَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ]. فَأَهْــلُ الْقُــــرْآنِ هُمْ أَهْــــلُ اللهِ وَخَاصَّتُهُ، أَحَبَّهُمْ فَحَبَاهُمْ، وَقَرَّبَهُمْ إِلَيْهِ وَأَدْنَاهُمْ؛ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هُمْ؟ قَالَ: «هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ، أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ» [أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ]، فَمَنْ عَمِلَ بِالْقُرْآنِ رَفَعَهُ اللهُ فِي الدَّارَيْنِ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا، وَمَنْ ضَيَّعَ حُدُودَهُ وَضَعَهُ اللهُ وَإِنْ كَانَ شَرِيفًا؛ عَنْ عَامِــرِ بْنِ وَاثِلَةَ أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ لَقِيَ عُمَرَ بِعُسْفَانَ، وَكَانَ عُمَرُ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى مَكَّةَ، فَقَالَ: مَنِ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي؟ فَقَالَ: ابْنَ أَبْزَى، قَالَ: وَمَنِ ابْنُ أَبْزَى؟ قَالَ: مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا، قَالَ: فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى؟ قَالَ: إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنَّهُ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ، قَالَ عُمَرُ: أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ» [أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:
وَمَنْ حَفِظَ كِتَابَ اللهِ: حَلَّتْ فِي حَيَاتِهِ الْبَرَكَاتُ، وَنَالَ أَسْمَى الدَّرَجَاتِ، وَحَصَّلَ مَا لَا يُحْصَى مِنَ الْحَسَنَاتِ؛ فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ]. وَمِنْ أَعْظَمِ بَرَكَاتِهِ وَأَلْطَفِ نَسَمَاتِهِ: الِاسْتِشْفَاءُ بِهِ مِنْ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ وَالْأَبْدَانِ؛ فَإِنَّهُ شِفَاءُ الْقُلُوبِ مِنْ أَمْرَاضِ غَيِّهَا وَضَلَالِهَا، وَأَدْوَاءِ شُبُهَاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا. وَشِفَاءٌ لِلْأَبْدَانِ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَسْقَامِهَا وَأَخْلَاطِهَا وَآفَاتِهَا؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس: 57]. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: (فَالْقُرْآنُ هُوَ الشِّفَاءُ التَّامُّ مِنْ جَمِيعِ الْأَدْوَاءِ الْقَلْبِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ، وَأَدْوَاءِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَا كُلُّ أَحَدٍ يُؤَهَّلُ وَلَا يُوَفَّقُ لِلِاسْتِشْفَاءِ بِهِ، وَإِذَا أَحْسَنَ الْعَلِيلُ التَّدَاوِيَ بِهِ، وَوَضَعَهُ عَلَى دَائِهِ بِصِدْقٍ وَإِيمَانٍ، وَقَبُولٍ تَامٍّ، وَاعْتِقَادٍ جَازِمٍ، وَاسْتِيفَاءِ شُرُوطِهِ؛ لَمْ يُقَاوِمْهُ الدَّاءُ أَبَدًا).
فَأَبْشِرُوا يَا مَنْ تَعَلَّمْتُمُ الْقُرْآنَ وَعَلَّمْتُمُوهُ أَبْنَاءَكُمْ حَتَّى حَفِظُوهُ وَنِعْمَتِ الْبِضَاعَةُ؛ فَهَذَا رَصِيدٌ لَكُمْ فِي أَعْمَالِكُمْ، وَذُخْرٌ فِي مِيزَانِكُمْ، وَبِهِ تَنَالُونَ الشَّفَاعَةَ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَجِيءُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ حَلِّهِ، فَيُلْبَسُ تَاجَ الْكَرَامَةِ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ زِدْهُ، فَيُلْبَسُ حُلَّةَ الْكَرَامَةِ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ ارْضَ عَنْهُ، فَيَرْضَى عَنْهُ، فَيُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ وَارْقَ وَتُزَادُ بِكُلِّ آيَةٍ حَسَنَةً» [أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَصَحَّحَهُ]. فَمِنْ أَعْظَمِ التَّرْبِيَةِ: أَنْ تَتَعَلَّقَ الْقُلُوبُ بِكَلَامِ اللهِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلَفْهِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَرْدَعُ صَاحِبَهُ عَنِ اقْتِرَافِ الْآثَامِ، وَيَمْنَعُهُ مِنْ أَكْلِ السُّحْتِ الْحَرَامِ، وَيَزْجُرُهُ عَنْ سَيِّئِ الْأَخْلَاقِ وَقَطِيعَةِ الْأَرْحَامِ؛ إِذْ فِيهِ وَعْدٌ وَوَعِيدٌ، وَفِي آيَاتِهِ تَخْوِيفٌ وَتَهْدِيدٌ، وَبِشَارَةٌ لِمَنْ يَعْمَلُونَ بِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، وَيَتَدَبَّرُونَهُ فِي أَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ؛ عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِه فِي الدُّنْيَا تَقْدُمُهُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ، تُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبِهِمَا» [أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ].
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الَّذِي أَنْزَلَ الْقُرْآنَ هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ يَسَّرَ كِتَابَهُ لِلذِّكْرِ وَجَعَلَهُ مَنَارًا لِلسَّالِكِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، دَعَا إِلَى سَبِيلِ رَبِّهِ مُسْتَمْسِكًا بِحَبْلِهِ الْمَتِينِ وَنُورِهِ الْمُبِينِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ -مَعَاشِرَ الْأَحْبَابِ- وَتَأَمَّلُوا فِي آيَاتِ الْكِتَابِ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الدَّوَاءُ لِكُلِّ دَاءٍ، وَالْمَخْرَجُ مِنْ كُلِّ فِتْنَةٍ وَبَلَاءٍ؛ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَبْشِرُوا وَأَبْشِرُوا، أَلَيْسَ تَشْهَدُونَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟» قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: «فَإِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ سَبَبٌ [أَيْ: حَبْلٌ] طَرَفُهُ بِيَدِ اللَّهِ وَطَرَفُهُ بِأَيْدِيكُمْ، فَتَمَسَّكُوا بِهِ؛ فَإِنَّكُمْ لَنْ تَضِلُّوا وَلَنْ تَهْلِكُوا بَعْدَهُ أَبَدًا» [أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:
لَقَدْ دَعَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى تَعَلُّمِ الْقُرْآنِ وَحِفْظِهِ، وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَى تَدَبُّرِ مَعَانِيهِ وَتِلَاوَةِ لَفْظِهِ؛ فَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ ﱁ حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ» [أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ].
وَحَثَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قِرَاءَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْعَظِيمِ، وَرَغَّبَ بِمَا فِي قِرَاءَتِهِ مِنَ الْأَجْرِ الْكَرِيمِ؛ فَقَالَ: «اقْرَؤُوا الْقُرْآنَ، فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ» [أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ].
وَحَافِظُ الْقُرْآنِ يَسْتَحِقُّ التَّكْرِيمَ، وَيَسْتَوْجِبُ الْإِجْلَالَ بِهِ وَالتَّعْظِيمَ؛ فَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللهِ: إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ» [أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَحَسَّنَهُ النَّوَوِيُّ]. وَحَذَّرَ مِنْ هَجْرِهِ وَتَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ؛ فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْأُتْرُجَّةِ، رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ، لَا رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا حُلْوٌ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ، رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ، لَيْسَ لَهَا رِيحٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ».
وَمِنْ هُنَا أَخَذَتِ الْقِيَادَةُ الْحَكِيمَةُ فِي بِلَادِنَا الْعَزِيزَةِ عَلَى عَاتِقِهَا الْعِنَايَةَ بِالْقُرْآنِ، وَبِحَلَقَاتِ تَحْفِيظِهِ لِلذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ مِنَ الْمُوَاطِنِينَ وَالْمُقِيمِينَ، وَفَتْحَ دُورٍ مُعْتَمَدَةٍ لِحِفْظِهِ وَتَعَلُّمِهِ، وَرِعَايَةً كَرِيمَةً مِنْ سُمُوِّ أَمِيرِ الْبِلَادِ لِمُسَابَقَةِ الْقُرْآنِ حِفْظاً وَتِلَاوَةً عَلَى الْمُسْتَوَيَيْنِ الْمَحَلِّيِّ وَالدَّوْلِيِّ. فَأَعْظِمْ بِالْقُرْآنِ هَادِيًا لِكُلِّ خَيْرٍ وَدَلِيلًا! وَأَكْرِمْ بِهِ شَافِعًا مُشَفَّعًا وَخَلِيلًا! فَهُوَ سَبَبُ الرِّفْعَةِ وَالْفَخَارِ فِي الدُّنْيَا، وَسَبِيلُ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ فِي الآخِرَةِ.
اللَّهُمَّ اجْعَلِ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ رَبِيعَ قُلُوبِنَا، وَنُورَ صُدُورِنَا، وَجَلَاءَ أَحْزَانِنَا، اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ شَفِيعاً لَنَا، وَشَاهِدًا لَنَا لَا شَاهِدًا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ أَلْبِسْنَا بِهِ الْحُلَلَ، وَأَسْكِنَّا بِهِ الظُّلَلَ، وَاجْعَلْنَا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْفَائِزِينَ، وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً مُطْمَئِنّاً، سَخَاءً رَخَاءً، دَارَ عَدْلٍ وَإِيمَانٍ، وَسَائِرَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَاحْفَظِ اللَّهُمَّ وَلِيَّ أَمْرِنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ بِحِفْظِكَ، وَوَفِّقْهُمْ لِكُلِّ خَيْرٍ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوفَ الْمُسْلِمِينَ، وَاشْفِ مَرْضَاهُمْ، وَارْحَمْ مَوْتَاهُمْ، وَانْصُرْهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ؛ إِنَّكَ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
لجنة إعداد الخطبة النموذجية لصلاة الجمعة